و
المرجئة ينازعون في كون الإقرار باللسان ركناً في الإيمان، فقالوا: لو كان الإقرار باللسان ركناً لما سقط عن الأبكم، لأن الركن لا يسقط، ويرد عليهم بأن القيام في الصلاة مع القدرة ركن، وهذا متفق عليه بين الشافعية والمالكية والأحناف، فالذي لا يستطيع القيام كالأقطع والكسيح؛ فنحن وأنتم متفقون على سقوط الركن عنه، ولو صلى إنسان قاعداً مع قدرته على القيام في الفرض لما صحت صلاته، فيلزم من قول
المرجئة صحة صلاة الرجل قاعداً مع قدرته على القيام في الفريضة، واستدلالهم هذا من أسوأ الاستدلالات.
إذا أتينا إلى واقعنا المعاصر فسنجد أن
توماس كارلايل -وهو مؤرخ إنجليزي مشهور- ألف كتاباً سماه
الأبطال، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الأبطال، وهناك أمريكي آخر ألف كتاب
مائة عظيم من العظماء وجعل أول العظماء محمداً صلى الله عليه وسلم، وكثير من المستشرقين يفسرون ما يعرض لمحمد صلى الله عليه وسلم من حالات بأنه وحي، ويستدلون بمشابهة حالته بحالة الأنبياء الذين يقرءون عنهم في العهد القديم، فكل هؤلاء يعتقدون بقلوبهم صدق النبي ونبوته، فهل يعدون من المسلمين ؟! الجواب: لا.
واليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بنبوته وصدق رسالته، جاء في
سنن النسائي و
المسند عن صفوان بن عسال قال: {
قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، قال له صاحبه: لا تقل: نبي، لو سمعك كان له أربعة أعين! فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه عن تسع آيات بينات، فقال لهم: لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تولوا يوم الزحف، وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت، فقبلوا يديه ورجليه وقالوا: نشهد أنك نبي، قال: فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالوا: إن داود دعا بألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود}.
وادعاؤهما غير صحيح، فإن اليهود لم يقتلوا
عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه.
الشاهد من القصة أنهما أقرا وشهدا ولم يتبعا، ولهذا قال لهما صلى الله عليه وسلم: {
وما يمنعكما أن تتبعاني؟} فقول القلب وقول اللسان إذا تجردا عن عمل الجوارح لا يكفيان لحصول الإيمان ولو اجتمعا، بل لابد من عمل القلب وعمل الجوارح حتى يسمى فاعل ذلك مؤمناً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فما بالك بالذي لم يحصل منه إلا قول القلب ولم ينطق باللسان؟!
وقد كان إبليس مقراً بربه تبارك وتعالى؛ فإنه قد قال: ((
رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي))[الحجر:39] وهو مقر بالجنة والنار، ومع ذلك فهو من أكفر خلق الله، ولم تنفعه المعرفة، وأحبار اليهود كانوا من هذا الجنس والعياذ بالله، فمجرد المعرفة أو التصديق أو الإقرار بالقلب دون انقياد القلب وعمل الجوارح لا ينفع صاحبه شيئاً.
ومن أمثلة ذلك في واقعنا الذي نعيشه من يقول: أنا مؤمن بأن هذا الدين صحيح؛ لكنه لا يصلي ولا يصوم ولا يعمل أي عمل من أعمال الإيمان، ولا يجد نفسه ملزماً باتباع هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا يقول: الدين الإسلامي صحيح، ومحمد حق، والجنة والنار حق، فهل ينفعه هذا الإقرار والاعتراف؟! الجواب: لا ينفعه ذلك.
ومثال آخر: إذا قام حاكم يحكم بالدساتير والقوانين الوضعية، والمذاهب الإلحادية الديمقراطية، والدستور الفرنسي، وجعل التشريع للشعب والحاكمية للأمة، وجاءه عالم من العلماء يكلمه عن أحكام الإسلام وتشريعاته، فيرد عليه بقوله: أنا أعرف أن أحكام الإسلام صالحة لكل زمان ومكان؛ لكنه لم يحكم الإسلام في دولته؛ فاعترافه وإقراره لا ينفعانه، ولا فائدة في إقرار بغير اتباع ولا انقياد؛ فهو كأي مستشرق يشهد بأن الإسلام حق، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حق وهو غير متبع ولا منقاد.
بهذا نكون قد انتهينا من قول اللسان وقول القلب، وعرفنا أن من لم يأت بهما أو بأحدهما كان كافراً باطناً وظاهراً، يقول
شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب
الإيمان : إن من لم يأت بالشهادتين كان كافراً ظاهراً وباطناً بإجماع المسلمين، ولا يأخذ حكم المسلمين لا في الدنيا ولا في الآخرة، يقول تعالى: ((
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[النساء:65] فلا عبرة بالإقرار والتصديق والاعتراف، دون اتباع ولا تحكيم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن جاء بقول القلب وقول اللسان وجب عليه أن يأتي بعمل حتى يكون مسلماً.